فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضًا في تفاضل منازلهم، وقال الحسن: غلّ الجاهلية، وقال سهل بن عبد الله الأهواء والبدع، وروي عن عليّ كرم الله وجهه فينا والله أهل بدر نزلت وعنه إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قيل فيهم {ونزعنا} الآية، والذي يظهر أنّ النزع للغلّ كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادّين متعاطفين، كما قال: {إخوانًا على سرر متقابلين} و{تجري} حال قاله الحوفي قال: والعامل فيه {نزعنا}، وقال أبو البقاء: حال والعامل فيها معنى الإضافة وكلا القولين لا يصح لأن {تجري} ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير {نزعنا} ولا صفات المفعول الذي هو {ما في صدورهم} ولأن معنى الإضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرّد من الإضافة رفعًا أو نصبًا فيما بعده والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم.
{وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا} أي وفّقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده والثناء عليه تعالى، وقيل: الهداية هنا هو الإرشاد إلى طريق الجنة ومنازلهم فيها وفي الحديث «أنّ أحدهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله في الدنيا»، وقيل: الإشارة بهذا إلى العمل الصالح الذي هذا جزاؤه، وقيل إلى الإيمان الذي تأهّلوا به لهذا النعيم المقيم، وقال الزمخشري: أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح انتهى، وفي لفظه واجب والعمل الصالح دسيسة الاعتزال، وقال أبو عبد الله الرازي معنى {هدانا} الله أعطانا القدرة وضمّ إليها الدّاعية الجازمة، وصير مجموعهما لحصول تلك الفضيلة وقالت المعتزلة التّحميد إنما وقع على أنه تعالى خلق العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع انتهى، وفي صحيح مسلم «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ أنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وأنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا وأنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدًا وأنّ لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدًا» فلذلك {قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا}.
{وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} أي وما كانت توجد منا أنفسنا وجدها الهداية لولا أن الله هدانا وهذه الجملة توضح أن الله خالق الهداية فيهم وأنهم لو خلوا وأنفسهم لم تكن منهم هداية، وقال الزمخشري: وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله تعالى وتوفيقه، وقال أبو البقاء: والواو للحال ويجوز أن تكون مستأنفة انتهى، والثاني: أظهر.
وقرأ ابن عامر {ما كنا} بغير واو وكذا هي في مصاحف أهل الشام وهي على هذا جملة موضحة للأولى ومن أجاز فيها الحال مع الواو ينبغي أن يجيزها دونها، والذي تقتضيه أصول العربية أنّ جواب {لولا} محذوف لدلالة ما قبله عليه أي {لولا أن هدانا الله} ما كنا لنهتدي أو لضللنا لأنّ {لولا} للتعليق فهي في ذلك كأدوات الشرط على أنّ بعض الناس خرج قوله: {لولا أن رأى برهان ربّه} على أنه جواب تقدم وهو قوله: {وهم بها} وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وهذا على مذهب جمهور البصريين في منع تقديم جواب الشرط.
{لقد جاءت رسل ربنا بالحقّ} أي بالموعود الذي وعدنا في الدنيا قضوا بأنّ ذلك حقّ قضاء مشاهدة بالحسّ وكانوا في الدنيا يقضون بذلك بالاستدلال، وقال الكرماني: وقع الموعود به على ما سبق به الوعد، وقال الزمخشري فكان لنا لطفًا وتنبيهًا على الاهتداء فاهتدينا يقولون: ذلك سرورًا واغتباطًا بما نالوا وتلذّذا بالتكلم به لا تقربًا وتعبدًا كما ترى من رزق خيرًا في الدنيا يتكلّم بنحو ذلك ولا يتمالك أن يقوله للفرح لا للقربة.
{ونودوا أنّ تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} يحتمل أن يكون النداء من الله وهو أسرّ لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي {ونودوا} بأنه {تلكم الجنة} واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خفّفت ويحتمل أن تكون {أن} مفسرة لوجود شرطها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة وكأنه قيل: {تلكم الجنة}.
قال ابن عطية {تلكم} إشارة إلى غائبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك أي {تلكم} هذه {الجنة} وحذفت هذه وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها فكل غائب عن منزله انتهى، وفي كتاب التحرير و{تلكم} إشارة إلى غائب وإنما قال هنا {تلكم} لأنهم وعدوا بها في الدنيا فلأجل الوعد جرى الخطاب بكلمة العهد قوله صلى الله عليه وسلم للصديق في الاستخبار عن عائشة «كيف تيكم» للعهد السابق انتهى، {والجنة} جوّزوا فيها أن تكون خبرًا لتلكم و{أورثتموها} حال كقوله: {فتلك بيوتهم خاوية} قال أبو البقاء: حال من {الجنة} والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ولا يجوز أن تكون حالًا من تلك للفصل بينهما بالخبر ولكون المبتدأ لا يعمل في الحال انتهى، وفي العامل في الحال في مثل هذا زيد قائمًا خلاف في النحو وأن يكون نعتًا وبدلًا و{أورثتموها} الخبر أدغم النحويان وحمزة وهشام الثاء في التاء وأظهرها باقي السبعة ومعنى {أورثتموها} صيرت لكم كالإرث وأبعد من ذهب إلى أنّ المعنى أورثتموها عن آبائكم لأنها كانت منازلهم لو آمنوا فحرموها بكفرهم وبعده إنّ ذلك عامّ في جميع المؤمنين ولم تكن آباؤهم كلهم كفارًا والباء في {بما} للسبب المجازي والأعمال أمارة من الله ودليل على قوة الرجاء ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله والقسم فيها على قدر العمل ولفظ {أورثتموها} مشير إلى الأقسام وليس ذلك واجبًا على الله تعالى، وقال الزمخشري: {أورثتموها} بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة انتهى، وهذا مذهب المعتزلة، وفي صحيح مسلم «لن يدخل الجنة أحد بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل». اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} أي نخرج من قلوبهم أسبابَ الغل أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التوادُّ. وصيغةُ الماضي للإيذان بتحققه وتقررِه، وعن علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ منهم {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} زيادةٌ في لذتهم وسرورهم، والجملةُ حالٌ من الضمير في صدورهم والعاملُ إما معنى الإضافة وإما العاملُ في المضاف أو حال من فاعل نزعنا والعاملُ نزعنا وقيل: هي مستأنفةٌ للإخبار عن صفة أحوالِهم {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} أي لِما جزاؤُه هذا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} أي لهذا المطلبِ الأعلى أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها {لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} ووفقنا له، واللام لتأكيد النفي وجوابُ لولا محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله عليه، ومفعولُ نهتدي وهدانا الثاني محذوفٌ لظهور المرادِ أو لإرادة التعميمِ كما أشير إليه، والجملةُ مستأنَفةٌ أو حالية وقرئ {ما كنا لنهتديَ...} الخ، بغير واو على أنها مبيِّنة ومفسرةٌ للأولى.
{لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا} جوابُ قسمٍ مقدر قالوه تبجّحًا واغتباطًا بما نالوه وابتهاجًا بإيمانهم بما جاءتهم الرسلُ عليهم السلام والباء في قوله تعالى: {بالحق} إما للتعدية فهي متعلقةٌ بجاءت أو للملابسة فهي متعلقةٌ بمقدرٍ وقع حالًا من الرسل أي والله لقد جاءوا بالحق أو لقد جاءوا ملتبسين بالحق {وَنُودُواْ} أي نادتهم الملائكةُ عليهم السلام {أَن تِلْكُمُ الجنة} أنْ مفسرةٌ لما في النداء من معنى القولِ أو مخففةٌ من أنّ وضمير الشأنِ محذوفٌ، ومعنى البُعدِ في اسم الإشارةِ إما لأنهم نوُدوا عند رؤيتِهم إياها من مكان بعيد، وإما رفع منزلتِها وبُعدِ رتبتِها، وإما للإشعار بأنها تلك الجنةَ التي وُعدوها في الدنيا {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال الصالحةِ أي أُعطيتموها بسبب أعمالِكم أو بمقابلة أعمالِكم والجملةُ حال من الجنة والعاملُ معنى الإشارةِ على أن {تلكم الجنةُ} مبتدأٌ وخبرٌ، أو الجنةُ صفةٌ والخبرُ أورثتموها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحبس أهل الجنة بعدما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل».
وقيل: المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة.
وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضًا.
وأيًا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه.
وقيل: إن هذا النزع إنما كان في الدنيا، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانًا بالنزع مجازًا، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضًا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية.
ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبئ بظاهره عن الغل.
إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاءًا لكلمة الله تعالى.
ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعده ظاهر الصيغة.
و{مّنْ غِلّ} على سائر الاحتمالات حال من ما.
وقوله سبحانه: {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} حال أيضًا إما من الضمير في {صُدُورُهُمْ} لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف، وإما من ضمير {نزعنا} على ما قيل والعامل الفعل.
واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم.
والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم.
{الأنهار وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} الفوز العظيم والنعيم المقيم.
والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازًا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها.
وقيل: المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه.
ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئًا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها {لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} وفقنا له، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول {نهتدي}.
{وهدانا} الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه، والجملة حالية أو استئنافية، وفي مصاحف أهل الشام {نَعْقِلُ مَا كُنَّا} بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك؛ وهذا كما ترى من رزق خيرًا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة.
وقوله سبحانه: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضًا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء، وقيل: تعليل لهدايتهم.
والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالًا من الرسل، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك، ودونك فاعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه.